سورة الممتحنة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} [الممتحنة: 60/ 1- 3].
يا أيها المصدّقون بالله تعالى ورسوله، لا تتخذوا عدوي وعدوّكم، وهم هنا كفار قريش، أنصارا وأعوانا وأصدقاء لكم، تنقلون إليهم أخبار نبيكم والمؤمنين، بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وهذا نهي صريح عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه.
وسبب النّهي: أنهم كفروا بالله ورسوله، وبما جاءكم من الحق وهو القرآن وهداية اللّه، وأخرجوا الرسول والمؤمنين من مكة، من أجل إيمانهم بالله تعالى، وعبادتهم إياه، وذلك للدواعي الآتية المتعلقة بكم:
- لا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل اللّه وطلب مرضاته.
- وتنقلون إليهم الأخبار، وتسرّون إليهم بمودّتكم لهم، وأنا اللّه العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، وبكل ما تخفون وما تعلنون.
- ومن يوال الأعداء منكم، فقد انحرف وأخطأ طريق الحق والصواب، وحاد عن قصد السبيل التي توصل إلى الجنة والرضوان الإلهي.
وكذلك لأسباب ثلاثة منهم تمنع موالاتهم، وتدلّ على عداوتهم وحقدهم وكراهيتهم:
- إن يلقوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء، ويكونوا حربا عليكم.
- ويمدّوا إليكم أيديهم بالضرب والأذى والقتل وغير ذلك من صنوف الاعتداء، وينالوكم بألسنتهم وكلماتهم سبّا وقذفا وشتما وبكل إساءة.
- ويتمنّوا ارتدادكم وكفركم بربّكم ورجوعكم إلى الكفر، فهم يحرصون على ألا تنالوا خيرا، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء الذين يبتدءونكم بالعداوة والسوء؟! ورابطة الدين والإيمان أنفع لكم من رابطة القرابة والموالاة، فلن تفيدكم يوم القيامة أقاربكم وأولادكم، حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب ابن أبي بلتعة التي هي سبب نزول هذه الآيات، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم اللّه به من معاداة الكفار، وترك موالاتهم، وتوثيق صلات الإيمان وأخوة الدين، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 49/ 10]. ففي الآخرة يفرّق اللّه بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، واللّه مطّلع على أعمالكم، ومبصر بها، ومجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.
والقصد من هذه الآية: أن القرابة النّسبية لا تنفع شيئا عند اللّه تعالى، إن أراد اللّه بكم سوءا، ولن تفيدكم القرابة إذا أرضيتموها بما يسخط اللّه، ومن وافق أهله على الكفر، فقد خاب وخسر وضلّ عمله، ولو كان قريبا لنبي أو منسوبا لآل البيت الطاهرين، لقوله تعالى في الأبوين: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 31/ 15]. هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة فيقول اللّه تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 23/ 101]. ويقول سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزّخرف: 43/ 67].
ألا إن المودّة لا تنفع يوم القيامة إن لم تكن فيما يرضي اللّه، حبّا ومعاداة، لانفصال كل اتّصال يومئذ، واعتماد كل إنسان على ما قدّم لنفسه.
إبراهيم الخليل أسوة حسنة:
الأنبياء الكرام كلهم قدوة للناس، ولا سيما إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليهم السّلام، وذلك في كل ما أمرهم اللّه تعالى به، ومنه التّبرؤ من الكفار ومعاداتهم، ولو كانوا إخوة أو آباء أو غيرهم، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة ومحبة وثقة، ولكن اللّه تعالى استثنى من التّأسي بأقوال إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام استغفاره لأبيه، الذي كان عن موعدة وعده بها قبل أن يعلم أنه عدوّ لله، ففي هذا لا يستغفر أحد لأبيه إذا كان كافرا، ولا تأسّي بما حدث، كما تصرّح هذه الآيات الكريمة:


{قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 60/ 4- 9].
لا بدّ لكل أمة من نبراس أو رمز أو قدوة عملية، يعمل الناس بسيرته العملية، وقد جعل اللّه للمسلمين من الأنبياء الماضين إبراهيم الخليل عليهم السّلام قدوة طيبة حميدة، يقتدون به وبمن آمن برسالته الداعية لتوحيد اللّه عزّ وجلّ والمنفّذة للدعوة، حين قالوا لقومهم الكفرة عبدة الأوثان: إننا بريئون منكم، لكفركم بالله وشرككم به، وبريئون من كل ما تعبدون من غير اللّه من الأصنام، فقد جحدنا بما آمنتم به من الأوثان، وكذّبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها.
وعادتنا معكم: أنه قد ظهرت العداوة والكراهية بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم، فنحن نتبرأ منكم إلى الأبد، حتى تظهروا الإيمان بالله وحده لا شريك له، وتعبدوا اللّه دون غيره، وتتركوا ما أنتم عليه من الشّرك والوثنية.
ثم استثنى اللّه تعالى شيئا لا يتأسّى به بإبراهيم عليه السّلام، ألا وهو استغفاره لأبيه، وقوله له: لا أملك لك من ردّ عذاب اللّه شيئا إن أشركت به، فلا تتأسوا به في هذا الاستغفار للمشركين، فإن استغفار إبراهيم لأبيه كان بسبب وعد سابق وعده إيّاه، فلما تبيّن له أنه عدوّ لله، تبرأ منه.
واعتصم إبراهيم عليه السّلام والمؤمنون به: بتوحيد اللّه حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم قائلين: يا ربّنا اعتمدنا عليك في جميع أمورنا، ورجعنا وتبنا إليك، فإليك المرجع والمصير في الآخرة، لا لأحد سواك.
يا ربّنا لا تغلّبهم علينا، فنكون لهم فتنة وسبب ضلالة، لأنّهم يتمسكون بكفرهم ويقولون: إنما غلبناهم لأنا على الحقّ وهم على الباطل، هذا قول قتادة، وقال ابن عباس: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا عن ديننا، وهذا القول الثاني أرجح، لأنهم إنما دعوا لأنفسهم، وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار. واغفر لنا ذنوبنا يا ربّنا، فإنك أنت القوي الغالب القاهر، وذو الحكمة البالغة في أقوالك وأفعالك، وشرعك وقدرك، وتدبير خلقك.
ثم أكّد اللّه تعالى المطالبة بالتّأسّي بإبراهيم والمؤمنين معه، فلقد كان لكم في إبراهيم والمؤمنين معه قدوة حسنة، لمن كان يطمع في الخير والثواب من اللّه، في الدنيا والآخرة، ويتأمّل النجاة في اليوم الآخر، ومن يعرض عما أمر اللّه تعالى به، ويوال أعداء اللّه ويوادّهم، فإنه لا يضرّ إلا نفسه، فإن اللّه هو الغني عن خلقه، المحمود: المستحقّ الحمد من جميع مخلوقاته بما أنعم عليهم.
ولما نزلت هذه الآيات، وصمم المؤمنون على قطع الصّلات بالكفار وإظهار عداوتهم، تأسّفوا على قراباتهم أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا، حتى يبقى بينهم الودّ والتّواصل، فنزل قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ} الآية مؤنسة لهم في ذلك، ومرجّية أن يقع، فأسلموا في فتح مكة، وصار الجميع إخوانا.
والمعنى: ربّما أسلم أعداؤكم، وصاروا من أهل دينكم، فتحوّلت العداوة إلى مودّة، والبغضاء إلى محبة، واللّه قادر على كل شيء، وغفور لمن أخطأ، فوادّهم، واسع الرّحمة بهم، فلم يعذّبهم بعد التوبة.
ثم سامح أو رخّص اللّه في مواصلة الكفار الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يطردوهم من ديارهم، فلا يمنعكم اللّه من فعل الخير مع الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء والضعفاء منهم، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضا من أن تحكموا بينهم بالعدل، إن اللّه يرضى عن العادلين.
نزلت هذه الآية- كما أخرج أحمد والبخاري ومسلم- في أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما، حين استأذنت النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم في صلة أمها وإعطائها شيئا من المال، وهي مشركة، فقال: «نعم، صلي أمك»، فأنزل اللّه فيها: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ...}.
والقصد من الآية: أن اللّه تعالى لا ينهى عن برّ المعاهدين من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يعينوا عليهم.
- إنما ينهاكم اللّه معشر المؤمنين عن موالاة الذين عادوكم، وهم مشركو قريش المردة وأمثالهم الذين قاتلوكم وأخرجوكم من دياركم، وساعدوا على إخراجكم، أن تتخذوهم أولياء، أي أنصارا وأصدقاء، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم صانعوا من يستحقّ العداوة.
اختبار المهاجرات إلى دار الإسلام:
تضمن صلح الحديبية بين النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومشركي مكة على أن يردّ المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلما من رجل أو امرأة، فنزلت آية اختبار المهاجرات إلى دار الإسلام إثر صلح الحديبية، ونقض اللّه تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم بأن المهاجرة المؤمنة لا تردّ إلى دار الكفر، بل تبقى عند المسلمين وتستبرأ بحيضة، وتتزوج، ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وأمر اللّه أيضا المؤمنين بطلب صداق من فرّت امرأته من المؤمنين، معاملة بالمثل، كما يتبين في هذه الآيات:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)} [الممتحنة: 60/ 10- 11].
أخرج البخاري ومسلم عن المسور ومروان بن الحكم: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل اللّه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ} إلى قوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ}.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا، أي صدّقوا بالله ورسوله، إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بلاد الكفار، فاختبروهن وجرّبوهن وتعرفوا حقيقة ما عندهن، لتعلموا صدق رغبتهن في الإسلام، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وسماهن اللّه تعالى: {مُؤْمِناتٍ} قبل التّيقن من ذلك، عملا بظاهر أمرهن. وقوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} أمر بمعنى الوجوب، وقيل: بمعنى النّدب أو الاستحباب.
قال ابن عباس وآخرون في كيفية هذا الامتحان: كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها، ولا بجريرة جرّتها، ولا بسبب من أعراض الدنيا، سوى حب اللّه تعالى، ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والدار الآخرة.
ثم حضّ اللّه تعالى على امتحانهن، واحتمال الاسترابة ببعضهن، فقال: { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ} أي إن الامتحان في الظاهر فقط، أما في الحقيقة والواقع فلا يعلم حقيقة حالهن إلا اللّه تعالى، واللّه أمركم بالظواهر، وهو يتولى السّرائر، فإن ترجح لكم أو غلب على ظنّكم أنهنّ مؤمنات، فلا تردوهنّ إلى أزواجهن المشركين. وسمي الظنّ علما: من باب الظّن الغالب.
والعلّة في ألا يردّ النساء إلى الكفار: هي امتناع الوطء وحرمته، فليست المؤمنات حلالا للكفار، وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي التي حرّمت المسلمات على المشركين الوثنيين. وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، كزواج أبي العاص بن الربيع بزينب ابنة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ثم أسلم سنة ثمان.
وأحكام تسوية زواج المسلمة المهاجرة: هي ما يأتي:
- ادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين ما غرموه عليهن من المهور.
- ولا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن، وبشرط انقضاء عدتهن، وكون الزواج من الولي وغير ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري في قوله: {وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ} نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.
- ويحرم عليكم أيها المؤمنون بعد نزول هذه الآية الزواج بالمشركات الكوافر، واستمرار العصمة الزوجية معهن، فمن كانت امرأته مشركة وثنية، فليست له بامرأة، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين.
- وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجانبين، واستثناء النساء من حكم صلح الحديبية: هو حكم اللّه وشرعه يحكم به بين عباده، واللّه واسع العلم، بالغ الحكمة في أقواله وأفعاله، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.
- وإن ذهبت امرأة من أزواجكم إلى الكفار، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الحرب، فعاقبتم، أي فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم، وذلك بأن يأتيكم شيء من أزواجهن، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، إذا لم يردّ المشركون على زوجها مهرها، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، وخافوا اللّه تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه، أي إن علة إيجاب التقوى: هي الإيمان بالله تعالى، والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ} الآية، قال- كما تقدم-: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتدّ امرأة من قريش غيرها.
وفي الجملة: على الكفار ردّ مهر المرأة العائدة إلى دار الكفر، فإن ردّوه تحقّق المطلوب، وإلا فمن غنائم الحرب العائدة منهم.
بيعة المهاجرات:
من المعلوم أن رسالة الإسلام عامة للإنس والجن، للعرب وغيرهم، وللعالم كله، ذكورا وإناثا، لإصلاح الحياة البشرية بنمو متوازن، فتعمّ الاستقامة، ولا يبقى فيها زاوية في المجتمع دون ترميم أو إصلاح، لذا كانت بداية دعوة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى دين اللّه وتوحيده، موجهة للرجال والنساء معا، عن طريق البيعة أو المعاهدة، فكانت بيعة الرجال أولا، ثم بيعة النساء، قبل فرض شريعة القتال، ولما فرغ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر أسفل منه يبايع النساء، بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ويبلغهن عنه. وهذا ما أخبرت به الآيات الآتية:

1 | 2